(توضيح القسمين) :
أن بعض الأمور يحصل العلم بها من دون إنعام نظر وفكر فيكفي في حصوله أن تتوجه النفس إلى الشيء بأحد أسباب التوجه الآتية من دون توسط عملية فكرية كما مثلنا ، وهذا هو الذي يسمى (بالضروري أو البديهي) سواء كان تصوراً أم تصديقاً. وبعضها لايصل الإنسان إلى العلم بها بسهولة ، بل لابد من إنعام النظر وإجراء عمليات عقلية ومعادلات فكرية كالمعادلات الجبرية ، فيتوصل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات) ، ولا يستطيع أن يتصل بالعلم بها رأساً من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجه صحيح ، لينتقل الذهن منها إلى ما كان مجهولاً عنده ، كما مثلنا. وهذا هو الذي يسمى (بالنظري أو الكسبي) سواء كان تصوراً أو تصديقاً.
توضيح في الضروري :
قلنا : أن العلم الضروري هو الذي لا يحتاج إلى الفكر وإنعام النظر وأشرنا إلى أنه لابد من توجه النفس بأحد أسباب التوجه. وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان :
فإن الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الإنسان ، لفقد سبب توجه النفس ، فلا يجب أن يكون الإنسان عالماً بجميع البديهيات ، ولا يضر ذلك ببداهة البديهي. ويمكن حصر أسباب التوجه في الأمور التالية : ـ
١ ـ (الانتباه) وهذا السبب مطّرد في جميع البديهيات ، فالغافل قد يخفى عليه أوضح الواضحات.
٢ ـ (سلامة الذهن) وهذا مطّرد أيضاً ، فإنّ من كان سقيم الذهن قد يشك في أظهر الأمور أو لا يفهمه. وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة.
٣ ـ (سلامة الحواس) وهذا خاص بالبديهيات المتوقفة على الحواس الخمس وهي المحسوسات. فإن الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيراً من العلم بالمنظورات وكذا الأصم في المسموعات وفاقد الذائقة في المذوقات. وهكذا.
٤ ـ (فقدان الشبهة). والشبهة : أن يؤلف الذهن دليلاً فاسداً يناقض بديهة من البديهيات ويغفل عما فيه من المغالطة ، فيشك بتلك البديهة أو يعتقد بعدمها. وهذا يحدث كثيراً في العلوم الفلسفية والجدليات. فإن من البديهيات عند العقل أن الوجود والعدم نقيضان وأن النقيضين لايجتمعان ولايرتفعان ، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهة ، فحسب أن الوجود والعدم لهما واسطة وسماها (الحال) ، فهما يرتفعان عندها. ولكن مستقيم التفكير إذا حدث له ذلك وعجز عن كشف المغالطة يردها ويقول أنها (شبهة في مقابل البديهة).
٥ ـ (عملية غير عقلية) لكثير من البديهيات ، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب في المتواترات ، وكالتجربة في التجربيات ، وكسعي الإنسان لمشاهدة بلاد أو استماع صوت في المحسوسات وما إلى ذلك. فإذا احتاج الإنسان للعلم بشيء إلى تجربة طويلة ، مثلاً ، وعناء عملي ، فلا يجعله ذلك علماً نظريا ما دام لايحتاج إلى الفكر والعملية العقلية.