تنبيهان
التنبيه الأوّل : القدر المتيقّن في مقام التخاطب
إنّ الشيخ المحقّق صاحب الكفاية قدسسره أضاف إلى مقدّمات الحكمة مقدّمة أخرى غير ما تقدّم ، وهي ألاّ يكون هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب والمحاورة ، وإن كان لا يضرّ وجود القدر المتيقّن خارجا في التمسّك بالإطلاق. ومرجع ذلك إلى أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام المحاورة يكون بمنزلة القرينة اللفظيّة على التقييد ، فلا ينعقد للّفظ ظهور في الإطلاق مع فرض وجوده.
ولتوضيح البحث نقول : إنّ كون المتكلّم في مقام البيان يتصوّر على نحوين :
١. أن يكون المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع حكمه ، بأن يكون غرض المتكلّم يتوقّف على أن يبيّن للمخاطب ويفهمه ما هو تمام الموضوع ، وأنّ ما ذكره هو تمام موضوعه لا غيره.
٢. أن يكون المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع الحكم واقعا ، ولو لم يفهم المخاطب أنّه تمام الموضوع فليس له غرض إلاّ بيان ذات موضوع الحكم بتمامه حتى يحصل من المكلّف الامتثال ؛ وإن لم يفهم المكلّف تفصيل الموضوع بحدوده.
فإن كان المتكلّم في مقام البيان على النحو الأوّل فلا شكّ في أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام المحاورة لا يضرّ في ظهور المطلق في إطلاقه ، فيجوز التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّه لو كان القدر المتيقّن المفروض هو تمام الموضوع ، لوجب بيانه ، وترك البيان اتّكالا على وجود القدر المتيقّن إخلال بالغرض ؛ لأنّه لا يكون مجرّد ذلك بيانا لكونه تمام الموضوع.
وإن كان المتكلّم في مقام البيان على النحو الثاني ، فإنّه يجوز أن يكتفي بوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لبيان تمام موضوعه واقعا ، ما دام أنّه ليس له غرض إلاّ أن يفهم المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا بوصف التمام ، أي أن يفهم ما هو تمام الموضوع بالحمل الشائع. وبذلك يحصل التبليغ للمكلّف ويمتثل في الموضوع الواقعيّ ؛ لأنّه هو المفهوم عنده في مقام المحاورة. ولا يجب في مقام الامتثال أن يفهم أنّ الذي فعله هو تمام الموضوع أو الموضوع أعمّ منه ومن غيره.
مثلا : لو قال المولى : «اشتر اللحم» ، وكان القدر المتيقّن في مقام المحاورة هو لحم الغنم ، وكان هو تمام موضوعه واقعا ، فإنّ وجود هذا القدر المتيقّن كاف لانبعاث المكلّف وشرائه للحم الغنم ، فيحصل موضوع حكم المولى ، فلو أنّ المولى ليس له غرض أكثر من تحقيق موضوع حكمه ، فيجوز له الاعتماد على القدر المتيقّن لتحقيق غرضه ولبيانه ، ولا يحتاج إلى أن يبيّن أنّه تمام الموضوع ؛ أمّا لو كان غرضه أكثر من ذلك بأن كان غرضه أن يفهم المكلّف تحديد الموضوع بتمامه فلا يجوز له الاعتماد على القدر المتيقّن ، وإلاّ لكان مخلاّ بغرضه ، فإذا لم يبيّن وأطلق الكلام استكشف أنّ تمام موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتيقّن وغيره.
إذا عرفت هذا التقرير فينبغي أن نبحث عمّا ينبغي للآمر أن يكون بصدد بيانه ، هل إنّه على النحو الأوّل أو الثاني؟
والذي يظهر من الشيخ صاحب الكفاية قدسسره أنّه لا ينبغي من الآمر أكثر من النحو الثاني ؛ نظرا إلى أنّه إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة كفاه ذلك لتحصيل مطلوبه وهو الامتثال. ولا يجب عليه مع ذلك بيان أنّه تمام الموضوع.
نعم ، إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة وكان تمام الموضوع هو المطلق ، فقد يظنّ المكلّف أنّ القدر المتيقّن هو تمام الموضوع ، وأنّ المولى أطلق كلامه اعتمادا على وجوده ؛ فإنّ المولى دفعا لهذا الوهم يجب عليه أن يبيّن أنّ المطلق هو تمام موضوعه ، وإلاّ كان مخلاّ بغرضه.
ومن هذا ينتج أنّه إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة وأطلق المولى ولم يبيّن أنّه تمام الموضوع فإنّه يعرف منه أنّ موضوعه هو القدر المتيقّن.
هذا خلاصة ما ذهب إليه في الكفاية مع تحقيقه وتوضيحه ، ولكن شيخنا النائينيّ قدسسره ـ على ما يظهر من التقريرات ـ لم يرتضه ، والأقرب إلى الصحّة ما في الكفاية. ولا نطيل بذكر هذه المناقشة والجواب عنها.