٩. تخصيص العامّ بالمفهوم
المفهوم ينقسم ـ كما تقدّم ـ إلى الموافق والمخالف ، فإذا ورد عامّ ومفهوم أخصّ مطلقا ، فلا كلام في تخصيص العامّ بالمفهوم اذا كان مفهوما موافقا ، مثاله قوله (تعالى) : ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فإنّه عامّ يشمل كلّ عقد يقع باللغة العربيّة وغيرها ، فإذا ورد دليل على اعتبار أن يكون العقد بصيغة الماضي فقد قيل : إنّه يدلّ بالأولويّة على اعتبار العربيّة في العقد ، لأنّه لمّا دلّ على عدم صحّة العقد بالمضارع من العربيّة فلئن لم يصحّ من لغة أخرى فمن طريق أولى. ولا شكّ أنّ مثل هذا المفهوم إن ثبت فإنّه يخصّص العامّ المتقدّم ؛ لأنّه كالنصّ ، أو أظهر من عموم العامّ فيقدّم عليه.
وأمّا : التخصيص بالمفهوم المخالف فمثاله قوله (تعالى) : ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (٤) الدالّ بعمومه على عدم اعتبار كلّ ظنّ حتى الظنّ الحاصل من خبر العادل. وقد وردت آية أخرى هي : ﴿إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...﴾ (٥) دالّة بمفهوم الشرط على جواز الأخذ بخبر غير الفاسق بغير تبيّن. فهل يجوز تخصيص ذلك العامّ بهذا المفهوم المخالف؟ قد اختلفوا على أقوال :
فقد قيل بتقديم العامّ ولا يجوز تخصيصه بهذا المفهوم.
وقيل بتقديم المفهوم.
وقيل بعدم تقديم أحدهما على الآخر ، فيبقى الكلام مجملا.
وفصّل بعضهم تفصيلات كثيرة يطول الكلام عليها.
والسرّ في هذا الخلاف أنّه لمّا كان ظهور المفهوم المخالف ليس من القوّة بحيث يبلغ درجة ظهور المنطوق أو المفهوم الموافق وقع الكلام في أنّه أقوى من ظهور العامّ ، فيقدّم عليه ، أو أنّ العامّ أقوى ، فهو المقدّم ، أو أنّهما متساويان في درجة الظهور فلا يقدّم أحدهما على الآخر ، أو أنّ ذلك يختلف باختلاف المقامات.
والحقّ أنّ المفهوم لمّا كان أخصّ من العامّ حسب الفرض فهو قرينة عرفا على المراد من العامّ ، والقرينة تقدّم على ذي القرينة ، وتكون مفسّرة لما يراد من ذي القرينة ، ولا يعتبر أن يكون ظهورها أقوى من ظهور ذي القرينة ، نعم ، لو فرض أنّ العامّ كان نصّا في العموم فإنّه يكون هو قرينة على المراد من الجملة ذات المفهوم ، فلا يكون لها مفهوم حينئذ ، هذا أمر آخر.