٨. تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة
وقد ترد عمومات متعدّدة في كلام واحد ثمّ يتعقّبها استثناء في آخرها ، فيشكّ حينئذ في رجوع الاستثناء لخصوص الجملة الأخيرة أو لجميع الجمل.
مثاله قوله (تعالى) : ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (*﴾ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا﴾ ، فإنّه يحتمل أن يكون هذا الاستثناء من الحكم الأخير فقط ، وهو فسق هؤلاء ، ويحتمل أن يكون استثناء منه ومن الحكم بعدم قبول شهادتهم والحكم بجلدهم الثمانين. واختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال :
١. ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، وإن كان رجوعه إلى غير الأخيرة ممكنا ، ولكنّه يحتاج إلى قرينة عليه.
٢. ظهوره في رجوعه إلى جميع الجمل ؛ وتخصيصه بالأخيرة فقط هو الذي يحتاج إلى الدليل.
٣. عدم ظهوره في واحد منهما ، وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقّنا على كلّ حال. أمّا ما عدا الأخيرة فتبقى مجملة لوجود ما يصلح للقرينيّة ، فلا ينعقد لها ظهور في العموم ، فلا تجري أصالة العموم فيها.
٤. التفصيل بين ما إذا كان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة لم يتكرّر ذكره ، وقد ذكر في صدر الكلام مثل قولك : «أحسن إلى الناس ، واحترمهم ، واقض حوائجهم إلاّ الفاسقين» ، وبين ما إذا كان الموضوع متكرّرا ذكره لكلّ جملة ، كالآية الكريمة المتقدّمة ، وإن كان الموضوع في المعنى واحدا في الجميع. فإن كان من قبيل الأوّل فهو ظاهر في رجوعه إلى الجميع ؛ لأنّ الاستثناء إنّما هو من الموضوع باعتبار الحكم ، والموضوع لم يذكر إلاّ في صدر الكلام فقط ، فلا بدّ من رجوع الاستثناء إليه ، فيرجع إلى الجميع ؛ وإن كان من قبيل الثاني فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة ؛ لأنّ الموضوع قد ذكر فيها مستقلاّ ، فقد أخذ الاستثناء محلّه ، ويحتاج تخصيص الجمل السابقة إلى دليل آخر مفقود بالفرض ، فيتمسّك بأصالة عمومها.
وأمّا : ما قيل : «أنّ المقام من باب اكتناف الكلام بما يصلح لأن يكون قرينة فلا ينعقد للجمل الأولى ظهور في العموم» فلا وجه له ؛ لأنّه لمّا كان المتكلّم حسب الفرض قد كرّر الموضوع بالذكر ، واكتفى باستثناء واحد ، وهو يأخذ محلّه بالرجوع إلى الأخيرة ، فلو أراد إرجاعه إلى الجميع ، لوجب أن ينصب قرينة على ذلك وإلاّ كان مخلاّ ببيانه.
وهذا القول الرابع هو أرجح الأقوال ، وبه يكون الجمع بين كلمات العلماء ، فمن ذهب إلى القول برجوعه إلى خصوص الأخيرة فلعلّه كان ناظرا إلى مثل الآية المباركة التي تكرّر فيها الموضوع ، ومن ذهب إلى القول برجوعه إلى الجميع فلعلّه كان ناظرا إلى الجمل التي لم يذكر فيها الموضوع إلاّ في صدر الكلام ، فيكون النزاع على هذا لفظيّا ، ويقع التصالح بين المتنازعين.