٢. دلالة التنبيه
وتسمّى «دلالة الإيماء» أيضا ، وهي كالأولى في اشتراط القصد عرفا ، ولكن من غير أن يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عليها ، وإنّما سياق الكلام ما يقطع معه بإرادة ذلك اللازم أو يستبعد عدم إرادته. وبهذا تفترق عن دلالة الاقتضاء ؛ لأنّها ـ كما تقدّم ـ يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عليها.
ولدلالة التنبيه موارد كثيرة نذكر أهمّها :
١. ما إذا أراد المتكلّم بيان أمر فنبّه عليه بذكر ما يلازمه عقلا أو عرفا ، كما إذا قال القائل : «دقّت الساعة العاشرة» مثلا ، حيث تكون الساعة العاشرة موعدا له مع المخاطب لينبّهه على حلول الموعد المتّفق عليه. أو قال : «طلعت الشمس» مخاطبا من قد استيقظ من نومه حينئذ ، لبيان فوات وقت أداء صلاة الغداة. أو قال : «إنّي عطشان» للدلالة على طلب الماء.
ومن هذا الباب ذكر الخبر لبيان لازم الفائدة ، مثل ما لو أخبر المخاطب بقوله : «إنّك صائم» لبيان أنّه عالم بصومه.
ومن هذا الباب أيضا الكنايات إذا كان المراد الحقيقيّ مقصودا بالإفادة من اللفظ ، ثمّ كنّى به عن شيء آخر.
٢. ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد كونه علّة للحكم ، أو شرطا ، أو مانعا ، أو جزءا ، أو عدم هذه الأمور ، فيكون ذكر الحكم تنبيها على كون ذلك الشيء علّة ، أو شرطا ، أو مانعا ، أو جزءا ، أو عدم كونه كذلك.
مثاله قول المفتي : «أعد الصّلاة» لمن سأله عن الشكّ في أعداد الثنائيّة ؛ فإنّه يستفاد منه أنّ الشكّ المذكور علّة لبطلان الصّلاة ؛ وللحكم بوجوب الإعادة.
مثال آخر قوله : «كفّر» لمن قال له : «واقعت أهلي في نهار شهر رمضان» ؛ فإنّه يفيد أنّ الوقاع في الصوم الواجب موجب للكفّارة.
ومثال ثالث قوله : «بطل البيع» لمن قال له : «بعت السمك في النهر» ، فيفهم منه اشتراط القدرة على التسليم في البيع.
ومثال رابع قوله : «لا تعيد» لمن سأل عن الصلاة في الحمّام ، فيفهم منه عدم مانعيّة الكون في الحمّام للصلاة ... وهكذا.
٣. ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد تعيين بعض متعلّقات الفعل ، كما إذا قال القائل : «وصلت إلى النهر وشربت» ، فيفهم من هذه المقارنة أنّ المشروب هو الماء ، وأنّه من النهر. ومثل ما إذا قال : «قمت وخطبت» أي خطبت قائما ... وهكذا.
٣. دلالة الإشارة
ويشترط فيها ـ على عكس الدلالتين السابقتين ـ ألاّ تكون الدلالة مقصودة بالقصد الاستعمالي بحسب العرف ، ولكن مدلولها لازم لمدلول الكلام لزوما غير بيّن ، أو لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، سواء استنبط المدلول من كلام واحد أم من كلامين.
مثال ذلك دلالة الآيتين على أقلّ الحمل ، وهما آية ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً﴾ وآية ﴿وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ﴾ ؛ فإنّه بطرح الحولين من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستّة أشهر ، فيعرف أنّه أقلّ الحمل.
ومن هذا الباب دلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته ؛ لأنّه لازم لوجوب ذي المقدّمة باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ. ولذلك جعلوا وجوب المقدّمة وجوبا تبعيّا لا أصليّا ؛ لأنّه ليس مدلولا للكلام بالقصد ، وإنّما يفهم بالتبع ، أي بدلالة الإشارة.
الجهة الثانية : حجّيّة هذه الدلالات
أمّا دلالة الاقتضاء والتنبيه : فلا شكّ في حجيّتهما إذا كانت هناك دلالة وظهور ؛ لأنّه من باب حجيّة الظواهر ، ولا كلام في ذلك.
وأمّا دلالة «الإشارة» : فحجيّتها من باب حجّية الظواهر محلّ نظر وشكّ ؛ لأنّ تسميتها بالدلالة من باب المسامحة ؛ إذا المفروض أنّها غير مقصودة والدلالة تابعة للإرادة ، وحقّها أن تسمّى «إشارة» و «إشعارا» فقط بغير لفظ الدلالة ، فليست هي من الظواهر في شيء حتى تكون حجّة من هذه الجهة.
نعم ، هي حجّة من باب الملازمة العقليّة حيث تكون ملازمة ، فيستكشف منها لازمها ، سواء كان حكما أم غير حكم ، كالأخذ بلوازم إقرار المقرّ وإن لم يكن قاصدا لها ، أو كان منكرا للملازمة. وسيأتي في محلّه في باب الملازمات العقليّة إنّ شاء الله تعالى.