٤. ما المطلوب في النهي؟
كلّ ما تقدّم ليس فيه خلاف جديد غير الخلاف الموجود في صيغة «افعل». وإنّما اختصّ النهي في خلاف واحد ، وهو أنّ المطلوب في النهي هل هو مجرّد الترك أو كفّ النفس عن الفعل؟. والفرق بينهما أنّ المطلوب على القول الأوّل أمر عدميّ محض ، والمطلوب على القول الثاني أمر وجوديّ ؛ لأنّ الكفّ فعل من أفعال النفس.
والحقّ هو القول الأوّل.
ومنشأ القول الثاني توهّم هذا القائل أنّ الترك ـ الذي معناه إبقاء عدم الفعل المنهيّ عنه على حاله ـ ليس بمقدور للمكلّف ؛ لأنّه أزليّ خارج عن القدرة ، فلا يمكن تعلّق الطلب به.
والمعقول من النهي أن يتعلّق فيه الطلب بردع النفس وكفّها عن الفعل ، وهو فعل نفسانيّ يقع تحت الاختيار.
والجواب عن هذا التوهّم أنّ عدم المقدوريّة في الأزل على العدم لا ينافي المقدوريّة بقاء واستمرارا ؛ إذ القدرة على الوجود تلازم القدرة على العدم ، بل القدرة على العدم على طبع القدرة على الوجود ، وإلاّ لو كان العدم غير مقدور بقاء لما كان الوجود مقدورا ، فإنّ المختار القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
والتحقيق أنّ هذا البحث ساقط من أصله ، فإنّه ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ ليس معنى النهي هو الطلب ، حتّى يقال : «إنّ المطلوب هو الترك أو الكفّ؟» ، وإنّما طلب الترك من لوازم النهي ، ومعنى النهي المطابقيّ هو الزجر والردع. نعم ، الردع عن الفعل يلزمه عقلا طلب الترك ، كما أنّ البعث نحو الفعل في الأمر يلزمه عقلا الردع عن الترك.
فالأمر والنهي ـ كلاهما ـ يتعلّقان بنفس الفعل رأسا ، فلا موقع للحيرة والشكّ في أنّ الطلب في النهي يتعلّق بالترك أو الكفّ.
٥. دلالة صيغة النهي على الدوام والتكرار
اختلفوا في دلالة صيغة النهي على التكرار أو المرّة ، كالاختلاف في صيغة «افعل».
والحقّ هنا ما قلناه هناك بلا فرق ، فلا دلالة لصيغة «لا تفعل» ، لا بهيئتها ، ولا بمادّتها على الدوام والتكرار ، ولا على المرّة ، وإنّما المنهيّ عنه صرف الطبيعة ، كما أنّ المبعوث نحوه في صيغة «افعل» صرف الطبيعة.
غير أنّ بينهما فرقا من ناحية عقليّة في مقام الامتثال ، فإنّ امتثال النهي بالانزجار عن فعل الطبيعة ، ولا يكون ذلك إلاّ بترك جميع أفرادها ، فإنّه لو فعلها مرّة واحدة ، ما كان ممتثلا. وأمّا امتثال الأمر فيتحقّق بإيجاد أوّل وجود من أفراد الطبيعة ، ولا تتوقّف طبيعة الامتثال على أكثر من فعل المأمور به مرّة واحدة.
وليس هذا الفرق من أجل وضع الصيغتين ودلالتهما ، بل ذلك مقتضى طبع النهي والأمر عقلا.
تنبيه
لم نذكر هنا ما اعتاد المؤلّفون ذكره من بحثي اجتماع الأمر والنهي ، ودلالة النهي على الفساد ؛ لأنّهما داخلان في «المباحث العقليّة» ، كما سيأتي ، وليس هما من مباحث الألفاظ. وكذلك بحث مقدّمة الواجب ، ومسألة الضدّ ، ومسألة الإجزاء ليست من مباحث الألفاظ أيضا. وسنذكر الجميع في المقصد الثاني (المباحث العقليّة) إن شاء الله (تعالى).