ثمّ هذا التخيير الشرعيّ تارة يكون بين المتباينين ، كالمثال المتقدّم ، وأخرى بين الأقلّ والأكثر ، كالتخيير بين تسبيحة واحدة وثلاث تسبيحات في ثلاثيّة الصلاة اليوميّة ورباعيّتها على قول. وكما لو أمر المولى برسم خطّ مستقيم ـ مثلا ـ مخيّرا فيه بين القصير والطويل.
وهذا الأخير ـ أعني التخيير بين الأقلّ والأكثر ـ إنّما يتصوّر فيما إذا كان الغرض مترتّبا على الأقلّ بحدّه ، ويترتّب على الأكثر بحدّه أيضا ، أمّا لو كان الغرض مترتّبا على الأقلّ مطلقا وإن وقع في ضمن الأكثر فالواجب حينئذ هو الأقلّ فقط ، ولا تكون الزيادة واجبة ، فلا يكون من باب الواجب التخييريّ ، بل الزيادة لا بدّ أن تحمل على الاستحباب.
٥. العينيّ والكفائيّ :
تقدّم أنّ الواجب العينيّ «ما يتعلّق بكلّ مكلّف ولا يسقط بفعل الغير» ، ويقابله الواجب الكفائيّ وهو «المطلوب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّف كان» ، فهو يجب على جميع المكلّفين ، ولكن يكتفى بفعل بعضهم ، فيسقط عن الآخرين ولا يستحقّ العقاب بتركه. نعم ، إذا تركوه جميعا من دون أن يقوم به واحد ، فالجميع منهم يستحقّون العقاب ، كما يستحقّ الثواب كلّ من اشترك في فعله.
وأمثلة الواجب الكفائيّ كثيرة في الشريعة : منها : تجهيز الميّت والصلاة عليه ؛ ومنها : إنقاذ الغريق ونحوه من التهلكة ؛ ومنها : إزالة النجاسة عن المسجد ؛ ومنها : الحرف والمهن والصناعات التي بها نظام معايش الناس ؛ ومنها : طلب الاجتهاد ؛ ومنها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأصل في هذا التقسيم أنّ المولى يتعلّق غرضه بالشيء المطلوب له من الغير على نحوين :
١. أن يصدر من كلّ واحد من الناس ، حينما تكون المصلحة المطلوبة تحصل من كلّ واحد مستقلاّ ، فلا بدّ أن يوجّه الخطاب إلى كلّ واحد منهم على أن يصدر من كلّ واحد عينا ، كالصوم والصلاة وأكثر التكاليف الشرعيّة. وهذا هو «الواجب العينيّ».
٢. أن يصدر من أحد المكلّفين لا بعينه ، حينما تكون المصلحة في صدور الفعل ولو مرّة واحدة من أيّ شخص كان ، فلا بدّ أن يوجّه الخطاب إلى جميع المكلّفين ؛ لعدم خصوصيّة لمكلّف دون مكلّف ، ويكتفى بفعل بعضهم الذي يحصل به الغرض ، فيجب على الجميع بفرض الكفاية. وهذا هو «الواجب الكفائيّ».
وقد وقع الأقدمون من الأصوليّين في حيرة من أمر الوجوب الكفائيّ وتطبيقه على القاعدة في الوجوب الذي قوامه بل لازمه المنع من الترك ، إذ رأوا أنّ وجوبه على الجميع لا يتلاءم مع جواز تركه بفعل بعضهم ، ولا وجوب بدون المنع من الترك. لذا ظنّ بعضهم أنّه ليس المكلّف المخاطب فيه الجميع بل البعض غير المعيّن ، أي أحد المكلّفين ، وظنّ بعضهم أنّه معيّن عند الله غير معيّن عندنا ، ويتعيّن من يسبق إلى الفعل منهم فهو المكلّف حقيقة ... إلى غير ذلك من الظنون .
ونحن لمّا صوّرناه بذلك التصوير المتقدّم لا يبقى مجال لهذه الظنون ، فلا نشغل أنفسنا بذكرها وردّها. وتدفع الحيرة بأدنى التفات ؛ لأنّه إذا كان غرض المولى يحصل بفعل البعض فلا بدّ أن يسقط وجوبه عن الباقي ؛ إذ لا يبقى ما يدعو إليه. فهو إذن واجب على الجميع من أوّل الأمر ، ولذا يمنعون جميعا من تركه ، ويسقط بفعل بعضهم لحصول الغرض منه .