٩. هل يدلّ نسخ الوجوب على الجواز؟
إذا وجب شيء في زمان بدلالة الأمر ثمّ نسخ ذلك الوجوب قطعا فقد اختلفوا في بقاء الجواز الذي كان مدلولا للأمر ؛ لأنّ الأمر كان يدلّ على جواز الفعل مع المنع من تركه ، فمنهم من قال ببقاء الجواز (١) ، ومنهم من قال بعدمه (٢).
ويرجع النزاع ـ في الحقيقة ـ إلى النزاع في مقدار دلالة نسخ الوجوب ، فإنّ فيه احتمالين :
١. إنّه يدلّ على رفع خصوص المنع من الترك فقط ، وحينئذ تبقى دلالة الأمر على الجواز على حالها لا يمسّها النسخ ، وهو القول الأوّل. ومنشأ هذا أنّ الوجوب ينحلّ إلى الجواز والمنع من الترك ، ولا شأن في النسخ إلاّ رفع المنع من الترك فقط ، ولا تعرّض له لجنسه وهو الجواز ، أي الإذن في الفعل.
٢. إنّه يدلّ على رفع الوجوب من أصله ، فلا يبقى لدليل الوجوب شيء يدلّ عليه. ومنشأ هذا هو أنّ الوجوب معنى بسيط لا ينحلّ إلى جزءين ، فلا يتصوّر في النسخ أنّه رفع للمنع من الترك فقط.
والمختار هو القول الثاني ؛ لأنّ الحقّ أنّ الوجوب أمر بسيط ، وهو الإلزام بالفعل ، (١) ولازمه المنع من الترك ، كما أنّ الحرمة هي المنع من الفعل ، ولازمها الإلزام بالترك ، وليس الإلزام بالترك ـ الذي معناه وجوب الترك ـ جزءا من معنى حرمة الفعل ، وكذلك المنع من الترك ـ الذي معناه حرمة الترك ـ ليس جزءا من معنى وجوب الفعل ، بل أحدهما لازم للآخر ينشأ منه تبعا له.
فثبوت الجواز بعد النسخ للوجوب يحتاج إلى دليل خاصّ يدلّ عليه ولا يكفي دليل الوجوب ، فلا دلالة لدليل الناسخ ولا لدليل المنسوخ على الجواز ، ويمكن أن يكون الفعل بعد نسخ وجوبه محكوما بكلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية.
وهذا البحث لا يستحقّ أكثر من هذا الكلام ؛ لقلّة البلوى به. وما ذكرناه فيه الكفاية.
١٠. الأمر بشيء مرّتين
إذا تعلّق الأمر بفعل مرّتين فهو يمكن أن يقع على صورتين :
١. أن يكون الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأوّل. وحينئذ لا شبهة في لزوم امتثاله ثانيا.
٢. أن يكون الأمر الثاني قبل امتثال الأمر الأوّل. وحينئذ يقع الشكّ في وجوب امتثاله مرّتين أو كفاية المرّة الواحدة في الامتثال. فإن كان الأمر الثاني تأسيسا لوجوب آخر تعيّن الامتثال مرّة بعد أخرى ، وإن كان تأكيدا للأمر الأوّل فليس لهما إلاّ امتثال واحد. ولتوضيح الحال وبيان الحقّ في المسألة نقول : إنّ هذا الفرض له أربع حالات :
الأولى : أن يكون الأمران معا غير معلّقين على شرط ، كأن يقول مثلا : «صلّ» ثمّ يقول ثانيا : «صلّ» ، فإنّ الظاهر حينئذ أن يحمل الأمر الثاني على التأكيد ؛ لأنّ الطبيعة الواحدة يستحيل تعلّق الأمرين بها من دون امتياز في البين ، فلو كان الثاني تأسيسا غير مؤكّد للأوّل لكان على الآمر تقييد متعلّقه ولو بنحو «مرّة أخرى». فمن عدم التقييد وظهور وحدة المتعلّق فيهما يكون اللفظ في الثاني ظاهرا في التأكيد ، وإن كان التأكيد في نفسه خلاف الأصل وخلاف ظاهر الكلام لو خلّي ونفسه.
الثانية : أن يكون الأمران معا معلّقين على شرط واحد ، كأن يقول المولى مثلا : «إن كنت محدثا فتوضّأ» ، ثمّ يكرّر نفس القول ثانيا. ففي هذه الحالة أيضا يحمل على التأكيد ؛ لعين ما قلناه في الحالة الأولى بلا تفاوت.
الثالثة : أن يكون أحد الأمرين معلّقا والآخر غير معلّق ، كأن يقول مثلا : «اغتسل» ثمّ يقول : «إن كنت جنبا فاغتسل». ففي هذه الحالة أيضا يكون المطلوب واحدا ويحمل على التأكيد ؛ لوحدة المأمور به ظاهرا المانعة من تعلّق الأمرين به ، غير أنّ الأمر المطلق ـ أعني غير المعلّق ـ يحمل إطلاقه على المقيّد ـ أعني المعلّق ـ ، فيكون الثاني مقيّدا لإطلاق الأوّل وكاشفا عن المراد منه.
الرابعة : أن يكون أحد الأمرين معلّقا على شيء والآخر معلّقا على شيء آخر ، كأن يقول مثلا : «إن كنت جنبا فاغتسل» ويقول : «إن مسست ميّتا فاغتسل» ، ففي هذه الحالة يحمل ـ ظاهرا ـ على التأسيس ؛ لأنّ الظاهر أنّ المطلوب في كلّ منهما غير المطلوب في الآخر. ويبعد جدّا حمله على أنّ المطلوب واحد ، أمّا التأكيد : فلا معنى له هنا ، وأمّا القول بالتداخل بمعنى الاكتفاء بامتثال واحد عن المطلوبين : فهو ممكن ، ولكنّه ليس من باب التأكيد ، بل لا يفرض إلاّ بعد فرض التأسيس وأنّ هناك أمرين يمتثلان معا بفعل واحد ؛
ولكنّ التداخل ـ على كلّ حال ـ خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلاّ بدليل خاصّ ، كما ثبت في غسل الجنابة أنّه يجزئ عن كلّ غسل آخر ، وسيأتي البحث عن التداخل مفصّلا في مفهوم الشرط .