٤. الواجب العينيّ وإطلاق الصيغة
الواجب العينيّ «ما يتعلّق بكلّ مكلّف ولا يسقط بفعل الغير» ، كالصلاة اليوميّة والصوم. ويقابله الواجب الكفائيّ ، وهو «المطلوب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّف كان» ، فيسقط بفعل بعض المكلّفين عن الباقي ، كالصلاة على الميّت وتغسيله ودفنه. وسيأتي في تقسيمات الواجب ذكرهما.
وفيما يتعلّق بمسألة تشخيص الظهور نقول : إن دلّ الدليل على أنّ الواجب عينيّ أو كفائيّ فذاك ، وإن لم يدلّ فإنّ إطلاق صيغة افعل يقتضي أن يكون عينيّا ، سواء أتى بذلك العمل شخص آخر أم لم يأت به ، فإنّ العقل يحكم بلزوم امتثال الأمر ما لم يعلم سقوطه بفعل الغير.
فالمحتاج إلى مزيد البيان على أصل الصيغة هو الواجب الكفائيّ ، فإذا لم ينصب المولى قرينة على إرادته ـ كما هو المفروض ـ يعلم أنّ مراده الواجب العينيّ.
٥. الواجب التعيينيّ وإطلاق الصيغة
الواجب التعيينيّ هو : «الواجب بلا واجب آخر يكون عدلا له وبديلا عنه في عرضه» ، كالصلاة اليوميّة. ويقابله الواجب التخييريّ ، كخصال كفّارة الإفطار العمديّ في صوم شهر رمضان ، المخيّرة بين إطعام ستّين مسكينا ، وصوم شهرين متتابعين ، وعتق رقبة. وسيأتي في الخاتمة توضيح الواجب التعيينيّ والتخييريّ.
فإذا علم واجب أنّه من أيّ القسمين فذاك ، وإلاّ فمقتضى إطلاق صيغة الأمر وجوب ذلك الفعل ، سواء أتى بفعل آخر أم لم يأت به ، فالقاعدة تقتضي عدم سقوطه بفعل شيء آخر ؛ لأنّ التخيير محتاج إلى مزيد بيان مفقود.
٦. الواجب النفسيّ وإطلاق الصيغة
الواجب النفسيّ هو «الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر» ، كالصلاة اليوميّة. ويقابله الواجب الغيريّ ، كالوضوء ، فإنّه إنّما يجب مقدّمة للصلاة الواجبة ، لا لنفسه ؛ إذ لو لم تجب الصلاة ، لما وجب الوضوء.
فإذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ ، فمقتضى إطلاق تعلّق الأمر به ـ سواء وجب شيء آخر أم لا ـ أنّه واجب نفسيّ. فالإطلاق يقتضي النفسيّة ما لم تثبت الغيريّة.
٧. الفور والتراخي
اختلف الأصوليّون في دلالة صيغة الأمر على الفور والتراخي على أقوال :
١. إنّها موضوعة للفور .
٢. إنّها موضوعة للتراخي .
٣. إنّها موضوعة لهما على نحو الاشتراك اللفظي .
٤. إنّها غير موضوعة لا للفور ، ولا للتراخي ، ولا للأعمّ منهما ، بل لا دلالة لها على أحدهما بوجه من الوجوه. وإنّما يستفاد أحدهما من القرائن الخارجيّة التي تختلف باختلاف المقامات. والحقّ هو الأخير.
والدليل عليه ما عرفت من أنّ صيغة «افعل» إنّما تدلّ على النسبة الطلبيّة ، كما أنّ المادّة لم توضع إلاّ لنفس الحدث غير الملحوظ معه شيء من خصوصيّاته الوجوديّة.
و عليه ، فلا دلالة لها ـ لا بهيئتها ولا بمادّتها ـ على الفور أو التراخي ؛ بل لا بدّ من دالّ آخر على شيء منهما ، فإن تجرّدت عن الدالّ الآخر ، فإنّ ذلك يقتضي جواز الإتيان بالمأمور به على الفور أو التراخي. هذا بالنظر إلى نفس الصيغة.
أمّا بالنظر إلى الدليل الخارجيّ المنفصل ، فقد قيل بوجود الدليل على الفور في جميع الواجبات على نحو العموم إلاّ ما دلّ عليه دليل خاصّ ينصّ على جواز التراخي فيه بالخصوص.
وقد ذكروا لذلك آيتين :
الأولى : قوله (تعالى) : ﴿وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾. وتقريب الاستدلال بها أنّ المسارعة إلى المغفرة لا تكون إلاّ بالمسارعة إلى سببها ، وهو الإتيان بالمأمور به ؛ لأنّ المغفرة فعل الله (تعالى) فلا معنى لمسارعة العبد إليها. وعليه فتكون المسارعة إلى فعل المأمور به واجبا ؛ لما مرّ من ظهور صيغة «افعل» في الوجوب .
الثانية : قوله (تعالى) : ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾ فإنّ الاستباق بالخيرات عبارة أخرى عن الإتيان بها فورا.