د. عدم إمكان الإطلاق والتقييد في التقسيمات الثانويّة للواجب
ثمّ إنّ كلّ واجب ـ بعد ثبوت الوجوب وتعلّق الأمر به واقعا ـ ينقسم إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي أمره ، وما يؤتى به لا بداعي أمره. ثمّ ينقسم أيضا إلى معلوم الوجوب ومجهوله.
وهذه التقسيمات تسمّى «التقسيمات الثانويّة» ؛ لأنّها من لواحق الحكم وبعد فرض ثبوت الوجوب واقعا ؛ إذ قبل تحقّق الحكم لا معنى لفرض إتيان الصلاة ـ مثلا ـ بداعي أمرها ؛ لأنّ المفروض في هذه الحالة [أنّه] لا أمر بها حتّى يمكن فرض قصده. وكذا الحال بالنسبة إلى العلم والجهل بالحكم.
وفي مثل هذه التقسيمات يستحيل التقييد ـ أي تقييد المأمور به ـ ؛ لأنّ قصد امتثال الأمر ـ مثلا ـ فرع وجود الأمر ، فكيف يعقل أن يكون الأمر مقيّدا به؟! ولازمه أن يكون الأمر فرع قصد الأمر ، وقد كان قصد الأمر فرع وجود الأمر ، فيلزم أن يكون المتقدّم متأخّرا والمتأخّر متقدّما. وهذا خلف أو دور.
وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا ؛ لما قلنا سابقا : إنّ الإطلاق من قبيل عدم الملكة بالقياس إلى التقييد ، فلا يفرض إلاّ في مورد قابل للتقييد ، ومع عدم إمكان التقييد لا يستكشف من عدم التقييد إرادة الإطلاق.
النتيجة
وإذا عرفنا هذه المقدّمات يحسن بنا أن نرجع إلى صلب الموضوع ، فنقول : قد اختلف الأصوليّون في أنّ الأصل في الواجب ـ إذا شكّ في كونه تعبّديّا أو توصّليّا ـ هل إنّه تعبّدي أو توصّليّ؟
ذهب جماعة إلى أنّ الأصل في الواجبات أن تكون عباديّة إلاّ أن يقوم دليل خاصّ على عدم دخل قصد القربة في المأمور به ؛ لأنّه لا بدّ من الإتيان به تحصيلا للفراغ اليقينيّ مع عدم الدليل على الاكتفاء بدونه ، ولا يمكن التمسّك بالإطلاق لنفيه حسب الفرض. وقد تقدّم ذلك في الأمر الأوّل. فتكون أصالة الاحتياط هي المرجع هنا وهي تقتضي العباديّة.
وذهب جماعة إلى أنّ الأصل في الواجبات أن تكون توصّليّة ، لا لأجل التمسّك بأصالة الإطلاق في نفس الأمر ، ولا لأجل أصالة البراءة من اعتبار قيد القربة، بل نتمسّك لذلك بإطلاق المقام.
توضيح ذلك أنّه لا ريب في أنّ المأمور به إطلاقا وتقييدا يتبع الغرض سعة وضيقا ، فإن كان القيد دخيلا في الغرض فلا بدّ من بيانه وأخذه في المأمور به قيدا ، وإلاّ فلا.
غير أنّ ذلك فيما يمكن أخذه من القيود في المأمور به ـ كما في التقسيمات الأوّليّة ـ أمّا : ما لا يمكن أخذه في المأمور به قيدا ـ كالذي نحن فيه وهو قيد قصد الامتثال ـ فلا يصحّ من الآمر أن يتغافل عنه حيث لا يمكن أخذه قيدا في الكلام الواحد المتضمّن للأمر ، بل لا مناص له عن اتّباع طريقة أخرى ممكنة لاستيفاء غرضه ، ولو بإنشاء أمرين : أحدهما يتعلّق بذات الفعل مجرّدا عن القيد ، والثاني يتعلّق بالقيد ، مثلا لو فرض أنّ غرض المولى قائم بالصلاة المأتيّ بها بداعي أمرها ؛ فإنّه إذا لم يمكن تقييد المأمور به بذلك في نفس الأمر المتعلّق بها ـ لما عرفت من امتناع التقييد في التقسيمات الثانوية ـ فلا بدّ له ـ أي الآمر ـ لتحصيل غرضه أن يسلك طريقة أخرى ، كأن يأمر أوّلا بالصلاة ثمّ يأمر ثانيا بإتيانها بداعي أمرها الأوّل ؛ مبيّنا ذلك بصريح العبارة.
وهذان الأمران يكونان في حكم أمر واحد ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّهما ناشئان من غرض واحد ، والثاني يكون بيانا للأوّل ، فمع عدم امتثال الأمر الثاني لا يسقط الأمر الأوّل بامتثاله فقط ، وذلك بأن يأتي بالصلاة مجرّدة عن قصد أمرها ، فيكون الأمر الثاني بانضمامه إلى الأوّل مشتركا مع التقييد في النتيجة وإن لم يسمّ تقييدا اصطلاحا.
إذا عرفت ذلك فنقول :
المولى إذا أمر بشيء ـ وكان في مقام البيان ـ واكتفى بهذا الأمر ولم يلحقه بما يكون بيانا له فلم يأمر ثانيا بقصد الامتثال فإنّه يستكشف منه عدم دخل قصد الامتثال في الغرض ، وإلاّ لبيّنه بأمر ثان. وهذا ما سمّيناه بـ «إطلاق المقام».
وعليه ، فالأصل في الواجبات كونها توصّليّة حتّى يثبت بالدليل أنّها تعبّديّة.