٢. اعتبار العلوّ في معنى الأمر
قد سبق أنّ الأمر يكون بمعنى الطلب ، ولكن لا مطلقا بل بمعنى طلب مخصوص. والظاهر أنّ الطلب المخصوص هو الطلب من العالي إلى الداني ، فيعتبر فيه العلوّ في الآمر.
وعليه ، لا يسمّى الطلب من الداني إلى العالي «أمرا» ، بل يسمّى «استدعاء». وكذا لا يسمّى الطلب من المساوي إلى مساويه في العلوّ أو الحطّة «أمرا» ، بل يسمّى «التماسا» ، وإن استعلى الداني أو المساوي وأظهر علوّه وترفّعه وليس هو بعال حقيقة.
أمّا العالي فطلبه يكون أمرا وإن لم يكن متظاهرا بالعلوّ .
كلّ هذا بحكم التبادر وصحّة سلب الأمر عن طلب غير العالي ، ولا يصحّ إطلاق الأمر على الطلب من غير العالي إلاّ بنحو العناية والمجاز وإن استعلى.
٣. دلالة لفظ الأمر على الوجوب
اختلفوا في دلالة لفظ «الأمر» بمعنى الطلب على الوجوب ، فقيل : إنّه موضوع لخصوص الطلب الوجوبيّ. وقيل : للأعمّ منه ومن الطلب الندبيّ (٤). وقيل : مشترك بينهما اشتراكا لفظيّا. وقيل : غير ذلك .
والحقّ عندنا أنّه دالّ على الوجوب وظاهر فيه ، فيما إذا كان مجرّدا وعاريا عن قرينة على الاستحباب. واحراز هذا الظهور بهذا المقدار كاف في صحّة استنباط الوجوب من الدليل الذي يتضمّن كلمة «الأمر» ، ولا يحتاج إلى إثبات [أنّ] منشأ هذا الظهور هل هو الوضع أو شيء آخر؟
ولكن من ناحية علميّة صرفة يحسن أن نفهم منشأ هذا الظهور ، فقد قيل : إنّ معنى الوجوب مأخوذ قيدا في الموضوع له لفظ «الأمر» . وقيل : مأخوذ قيدا في المستعمل فيه إن لم يكن مأخوذا في الموضوع له .
والحقّ أنّه ليس قيدا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، بل منشأ هذا الظهور من جهة حكم العقل بوجوب طاعة الآمر ؛ فإنّ العقل يستقلّ بلزوم الانبعاث عن بعث المولى والانزجار عن زجره ؛ قضاء لحقّ المولويّة والعبوديّة ، فبمجرّد بعث المولى يجد العقل أنّه لا بدّ للعبد من الطاعة والانبعاث ما لم يرخّص في تركه ويأذن في مخالفته. فليس المدلول للفظ «الأمر» إلاّ الطلب من العالي ، ولكنّ العقل هو الذي يلزم العبد بالانبعاث ويوجب عليه الطاعة لأمر المولى ما لم يصرّح المولى بالترخيص ويأذن بالترك.
وعليه ، فلا يكون استعماله في موارد الندب مغايرا لاستعماله في موارد الوجوب من جهة المعنى المستعمل فيه اللفظ. فليس هو موضوعا للوجوب ، بل ولا موضوعا للأعمّ من الوجوب والندب ؛ لأنّ الوجوب والندب ليسا من التقسيمات اللاحقة للمعنى المستعمل فيه اللفظ ، بل من التقسيمات اللاحقة للأمر بعد استعماله في معناه الموضوع له.