المختار
إذا عرفت ما تقدّم من الأمور ، فنقول :
الحقّ أنّ المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، ومجاز في غيره.
ودليلنا : التبادر وصحّة السلب عمّن زال عنه الوصف ، فلا يقال لمن هو قاعد بالفعل : «إنّه قائم» ، ولا لمن هو جاهل بالفعل : «إنّه عالم». وذلك لمجرّد أنّه كان قائما أو عالما فيما سبق.
نعم ، يصحّ ذلك على نحو المجاز ، أو يقال : «إنّه كان قائما أو عالما» ، فيكون حقيقة حينئذ ؛ إذ يكون الإطلاق بلحاظ حال التلبّس.
وعدم تفرقة بعضهم بين الإطلاق بلحاظ حال التلبّس وبين الإطلاق بلحاظ حال النسبة والإسناد هو الذي أوهم القول بوضع المشتقّ للأعمّ ؛ إذ وجد أنّ الاستعمال يكون على نحو الحقيقة فعلا مع أنّ التلبّس قد مضى ، ولكنّه غفل عن أنّ الإطلاق كان بلحاظ حال التلبّس ، فلم يستعمله ـ في الحقيقة ـ إلاّ في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، لا فيما مضى عنه التلبّس حتّى يكون شاهدا له.
ثمّ إنّك عرفت ـ فيما سبق ـ أنّ زوال الوصف يختلف باختلاف الموادّ من جهة كون المبدأ أخذ على نحو الفعليّة أو على نحو الملكة أو الحرفة. فمثل صدق الطبيب حقيقة على من لا يشتغل بالطبابة فعلا لنوم أو راحة أو أكل لا يكشف عن كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ ـ كما قيل ـ ، وذلك لأنّ المبدأ فيه أخذ على نحو الحرفة أو الملكة ، وهذا لم يزل تلبّسه به حين النوم أو الراحة.
نعم ، إذا زالت الملكة أو الحرفة عنه كان إطلاق الطبيب عليه مجازا ، إذا لم يكن بلحاظ حال التلبّس كما لو قيل : «هذا طبيبنا بالأمس» ، بأن يكون قيد «بالأمس» لبيان حال التلبّس ، فإنّ هذا الاستعمال لا شكّ في كونه على نحو الحقيقة. وقد سبق بيان ذلك .
الباب الثاني
الأوامر
وفيه بحثان :
[١]. في مادّة الأمر.
[٢]. وصيغة الأمر.
وخاتمة في تقسيمات الواجب.
المبحث الأوّل : مادّة الأمر
وهي كلمة «الأمر» المؤلّفة من الحروف (أ. م. ر). وفيها ثلاث مسائل :
١. معنى كلمة «الأمر»
قيل : إنّ كلمة «الأمر» لفظ مشترك بين الطلب وغيره ممّا تستعمل فيه هذه الكلمة ، كالحادثة والشأن والفعل ، كما تقول : «جئت لأمر كذا» ، أو «شغلني أمر» أو «أتى فلان بأمر عجيب».
ولا يبعد أن تكون المعاني ـ التي تستعمل فيها كلمة «الأمر» ما خلا الطلب ـ ترجع إلى معنى واحد جامع بينها ، وهو مفهوم «الشيء» ، فيكون لفظ «الأمر» مشتركا بين معنيين فقط : «الطلب» و «الشيء (٢)».
والمراد من الطلب إظهار الإرادة والرغبة بالقول أو الكتابة أو الإشارة أو نحو هذه الأمور ممّا يصحّ إظهار الإرادة والرغبة وإبرازهما به ، فمجرّد الإرادة والرغبة من دون إظهارها بمظهر لا يسمّى طلبا. والظاهر أنّه ليس كلّ طلب يسمّى أمرا ، بل بشرط مخصوص سيأتي ذكره في المسألة الثانية ، فتفسير «الأمر» بالطلب من باب تعريف الشيء بالأعمّ.
والمراد من الشيء من لفظ «الأمر» أيضا ليس كلّ شيء على الإطلاق ، فيكون تفسيره به من باب تعريف الشيء بالأعمّ أيضا ؛ فإنّ الشيء لا يقال له : «أمر» إلاّ إذا كان من الأفعال والصفات ، ولذا لا يقال : «رأيت أمرا» إذا رأيت إنسانا أو شجرا أو حائطا. ولكن ليس المراد من الفعل والصفة المعنى الحدثيّ ـ أي المعنى المصدريّ ـ ، بل المراد منه نفس الفعل أو الصفة بما هو موجود في نفسه ، ـ يعني لم يلاحظ فيه جهة الصدور من الفاعل والإيجاد وهو المعبّر عنه عند بعضهم بالمعنى الاسم المصدريّ ، أي ما يدلّ عليه اسم المصدر ـ. ولذا لا يشتقّ منه ، فلا يقال : (أمر. يأمر. آمر. مأمور) بالمعنى المأخوذ من الشيء ، ولو كان معنى حدثيّا ، لاشتقّ منه.
بخلاف الأمر بمعنى الطلب ، فإنّ المقصود منه المعنى الحدثيّ وجهة الصدور والإيجاد ، ولذا يشتقّ منه فيقال : (أمر. يأمر. آمر. مأمور).
والدليل على أنّ لفظ الأمر مشترك بين معنيين : الطلب والشيء ، لا أنّه موضوع للجامع بينهما :
١. إنّ «الأمر» ـ كما تقدّم ـ بمعنى الطلب يصحّ الاشتقاق منه ، ولا يصحّ الاشتقاق منه بمعنى الشيء ؛ والاختلاف بالاشتقاق وعدمه دليل على تعدّد الوضع.
٢. إنّ «الأمر» بمعنى الطلب يجمع على «أوامر» وبمعنى الشيء على «أمور» ؛ واختلاف الجمع في المعنيين دليل على تعدّد الوضع.