استعمال اللفظ في أكثر من معنى
ولا شكّ في جواز استعمال اللفظ المشترك في أحد معانيه بمعونة القرينة المعيّنة ، وعلى تقدير عدم القرينة يكون اللفظ مجملا لا دلالة له على أحد معانيه.
كما لا شبهة في جواز استعماله في مجموع معانيه بما هو مجموع المعاني ، غاية الأمر يكون هذا الاستعمال مجازا يحتاج إلى القرينة ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير ما وضع له.
وإنّما وقع البحث والخلاف في جواز إرادة أكثر من معنى واحد من المشترك في استعمال واحد ، على أن يكون كلّ من المعاني مرادا من اللفظ على حدة ، وكأنّ اللفظ قد جعل للدلالة عليه وحده.
وللعلماء في ذلك أقوال وتفصيلات كثيرة لا يهمّنا الآن التعرّض لها.
وإنّما الحقّ عندنا عدم جواز مثل هذا الاستعمال.
الدليل أنّ استعمال أيّ لفظ في معنى إنّما هو بمعنى إيجاد ذلك المعنى باللفظ ، لكن لا بوجوده الحقيقيّ ، بل بوجوده الجعليّ التنزيليّ ؛ لأنّ وجود اللفظ وجود للمعنى تنزيلا.
فهو وجود واحد ينسب إلى اللفظ حقيقة أوّلا وبالذات ، وإلى المعنى تنزيلا ثانيا وبالعرض، فإذا أوجد المتكلّم اللفظ لأجل استعماله في المعنى فكأنّما أوجد المعنى وألقاه بنفسه إلى المخاطب. فلذلك يكون اللفظ ملحوظا للمتكلّم بل للسامع آلة وطريقا للمعنى ، وفانيا فيه ، وتبعا للحاظه ، والملحوظ بالأصالة والاستقلال هو المعنى نفسه.
وهذا نظير الصورة في المرآة ؛ فإنّ الصورة موجودة بوجود المرآة ، والوجود الحقيقيّ للمرآة ، وهذا الوجود نفسه ينسب إلى الصورة ثانيا وبالعرض. فإذا نظر الناظر إلى الصورة في المرآة فإنّما ينظر إليها بطريق المرآة بنظرة واحدة هي للصورة بالاستقلال والأصالة ، وللمرآة بالآليّة والتبع ، فتكون المرآة كاللفظ ملحوظة تبعا للحاظ الصورة ، وفانية فيها فناء العنوان في المعنون .
وعلى هذا ، فلا يمكن استعمال لفظ واحد إلاّ في معنى واحد ؛ فإنّ استعماله في معنيين مستقلاّ ـ بأن يكون كلّ منهما مرادا من اللفظ على حدة ، كما إذا لم يكن إلاّ نفسه ـ يستلزم لحاظ كلّ منهما بالأصالة ، فلا بدّ من لحاظ اللفظ في آن واحد مرّتين بالتبع ، ومعنى ذلك اجتماع لحاظين في آن واحد على ملحوظ واحد ، أعني به (٢) اللفظ الفاني في كلّ من المعنيين ، وهو محال بالضرورة ؛ فإنّ الشيء الواحد لا يقبل إلاّ وجودا واحدا في النفس في آن واحد.
ألا ترى أنّه لا يمكن أن يقع لك أن تنظر في مرآة واحدة إلى صورة تسع المرآة كلّها ، وتنظر ـ في نفس الوقت ـ إلى صورة أخرى تسعها أيضا. إنّ هذا لمحال.
وكذلك النظر في اللفظ إلى معنيين ، على أن يكون كلّ منهما قد استعمل فيه اللفظ مستقلاّ ، ولم يحك إلاّ عنه.
نعم ، يجوز لحاظ اللفظ فانيا في معنى في استعمال ، ثمّ لحاظه فانيا في معنى آخر في استعمال ثان ، مثل ما تنظر في المرآة إلى صورة تسعها ، ثمّ تنظر في وقت آخر إلى صورة أخرى تسعها.
وكذا يجوز لحاظ اللفظ في مجموع معنيين في استعمال واحد ولو مجازا ، مثلما تنظر في المرآة في آن واحد إلى صورتين لشيئين مجتمعين. وفي الحقيقة إنّما استعملت اللفظ في معنى واحد هو مجموع المعنيين ، ونظرت في المرآة إلى صورة واحدة لمجموع الشيئين.
تنبيهان
الأوّل : أنّه لا فرق في عدم جواز الاستعمال في المعنيين بين أن يكونا حقيقيّين أو مجازيّين أو مختلفين ؛ فإنّ المانع ـ وهو تعلّق لحاظين بملحوظ واحد في آن واحد ـ موجود في الجميع ، فلا يختصّ بالمشترك كما اشتهر.
الثاني : ذكر بعضهم أنّ الاستعمال في أكثر من معنى إن لم يجز في المفرد يجوز في التثنية والجمع ، بأن يراد من كلمة «عينين» ـ مثلا ـ فرد من العين الباصرة وفرد من العين النابعة ، فلفظ «عين» ـ وهو مشترك ـ قد استعمل حال التثنية في معنيين : في الباصرة ، والنابعة. وهذا شأنه في الإمكان والصحّة شأن ما لو أريد معنى واحد من كلمة «عينين» ، بأن يراد فردان من العين الباصرة ـ مثلا ـ فإذا صحّ هذا فليصحّ ذلك بلا فرق.
واستدلّ على ذلك بما ملخّصه :
أنّ التثنية والجمع في قوّة تكرار الواحد بالعطف ، فإذا قيل : «عينان» فكأنّما قيل : «عين وعين». وإذ يجوز في قولك : «عين وعين» أن تستعمل أحدهما في الباصرة ، والثانية في النابعة فكذلك ينبغي أن يجوز فيما هو بقوّتهما ، أعني «عينين» ، وكذا الحال في الجمع.
والصحيح عندنا عدم الجواز في التثنية والجمع ، كالمفرد. والدليل : أنّ التثنية والجمع وإن كانا موضوعين لإفادة التعدّد ، إلاّ أنّ ذلك من جهة وضع الهيئة في قبال وضع المادّة ، وهي ـ أي المادّة ـ نفس لفظ المفرد الذي طرأت عليه التثنية والجمع ، فإذا قيل : «عينان» ـ مثلا ـ فإن اريد من المادّة خصوص الباصرة ـ مثلا ـ فالتعدّد يكون بالقياس إليها (٣) ، أي فردان منها ، وإن أريد منها خصوص النابعة ـ مثلا ـ فالتعدّد يكون بالقياس إليها ، فلو اريد الباصرة والنابعة ، فلا بدّ أن يراد التعدّد من كلّ منهما ـ أي فردان من الباصرة وفردان من النابعة ـ ، لكنّه مستلزم لاستعمال المادّة في أكثر من معنى ، وقد عرفت استحالته.
وأمّا أنّ التثنية والجمع في قوّة تكرار الواحد فمعناه أنّهما تدلاّن على تكرار أفراد المعنى المراد من المادّة ، لا تكرار نفس المعنى المراد منهما. فلو أريد من استعمال التثنية أو الجمع فردان أو أفراد من طبيعتين أو طبائع متعدّدة لا يمكن ذلك أبدا إلاّ أن يراد من المادّة «المسمّى بهذا اللفظ» على نحو المجاز ، فتستعمل المادّة في معنى واحد وهو معنى «مسمّى هذا اللفظ» وإن كان مجازا ، نظير الأعلام الشخصيّة غير القابلة لعرض التعداد على مفاهيمها الجزئية إلاّ بتأويل المسمّى ، فإذا قيل : «محمّدان» فمعناه فردان من المسمّى بلفظ «محمّد» ، فاستعملت المادّة ـ وهي لفظ محمّد ـ في مفهوم «المسمّى» مجازا.