٥. أصالة الظهور
وموردها ما إذا كان اللفظ ظاهرا في معنى خاصّ لا على وجه النصّ فيه الذي لا يحتمل معه الخلاف ، بل كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر ، فإنّ الأصل حينئذ أن يحمل الكلام على الظاهر فيه.
وفي الحقيقة أنّ جميع الأصول المتقدّمة راجعة إلى هذا الأصل ؛ لأنّ اللفظ مع احتمال المجاز ـ مثلا ـ ظاهر في الحقيقة ، ومع احتمال التخصيص ظاهر في العموم ، ومع احتمال التقييد ظاهر في الإطلاق ، ومع احتمال التقدير ظاهر في عدمه. فمؤدّى أصالة الحقيقة نفس مؤدّى أصالة الظهور في مورد احتمال المجاز ، ومؤدّى أصالة العموم هو نفس مؤدّى أصالة الظهور في مورد احتمال التخصيص ... وهكذا في باقي الأصول المذكورة.
فلو عبّرنا بدلا عن كلّ من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التعبير صحيحا مؤدّيا للغرض ، بل كلّها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور ، فليس عندنا في الحقيقة إلاّ أصل واحد هو «أصالة الظهور» ، ولذا لو كان الكلام ظاهرا في المجاز واحتمل إرادة الحقيقة انعكس الأمر ، وكان الأصل من اللفظ المجاز ، بمعنى أنّ الأصل الظهور ، ومقتضاه الحمل على المعنى المجازيّ ، ولا تجري أصالة الحقيقة حينئذ. وهكذا لو كان الكلام ظاهرا في التخصيص أو التقييد.
حجيّة الأصول اللفظيّة
وهي الجهة الثانية من البحث عن الأصول اللفظيّة ، والبحث عنها يأتي في بابه ـ وهو باب مباحث الحجّة (١) ـ. ولكن ينبغي الآن أن نتعجّل في البحث عنها ؛ لكثرة الحاجة إليها ، مكتفين بالإشارة ، فنقول :
إنّ المدرك والدليل في جميع الأصول اللفظية واحد ، وهو تباني العقلاء في الخطابات الجارية بينهم على الأخذ بظهور الكلام ، وعدم الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر ، كما لا يعتنون باحتمال الغفلة ، أو الخطأ ، أو الهزل ، أو إرادة الإهمال والإجمال ، فإذا احتمل الكلام المجاز أو التخصيص أو التقييد أو التقدير لا يوقفهم ذلك عن الأخذ بظاهره ، كما يلغون أيضا احتمال الاشتراك والنقل ونحوهما.
ولا بدّ أنّ الشارع قد أمضى هذا البناء ، وجرى في خطاباته على طريقتهم هذه ، وإلاّ لزجرنا ونهانا عن هذا البناء في خصوص خطاباته ، أو لبيّن لنا طريقته لو كان له غير طريقتهم طريقة خاصّة يجب اتّباعها ، ولا يجوز التعدّي عنها إلى غيرها ، فيعلم من ذلك على سبيل الجزم أنّ الظاهر حجّة عنده كما هو عند العقلاء بلا فرق.
١٣. الترادف والاشتراك
لا ينبغي الإشكال في إمكان الترادف والاشتراك ، بل في وقوعهما في اللغة العربيّة ، فلا يصغى إلى مقالة من أنكرهما (٢). وهذه بين أيدينا اللغة العربيّة ووقوعهما فيها واضح لا يحتاج إلى بيان.
ولكن ينبغي أن نتكلّم في نشأتهما ، فإنّه يجوز أن يكونا من وضع واضع واحد ، بأن يضع شخص واحد لفظين لمعنى واحد أو لفظا لمعنيين ، ويجوز أن يكونا من وضع واضعين متعدّدين ، فتضع قبيلة ـ مثلا ـ لفظا لمعنى وقبيلة أخرى لفظا آخر لذلك المعنى ، أو تضع قبيلة لفظا لمعنى وقبيلة اخرى ذلك اللفظ لمعنى آخر. وعند الجمع بين هذه اللغات باعتبار أنّ كلّ لغة منها لغة عربيّة صحيحة يجب اتّباعها يحصل الترادف والاشتراك.
والظاهر أنّ الاحتمال الثاني أقرب إلى واقع اللغة العربيّة ، كما صرّح به بعض المؤرّخين للّغة ، وعلى الأقلّ فهو الأغلب في نشأة الترادف والاشتراك ، ولذا نسمع علماء العربيّة يقولون : لغة الحجاز كذا ، ولغة حمير كذا ، ولغة تميم كذا ... وهكذا. فهذا دليل على تعدّد الوضع بتعدّد القبائل والأقوام والأقطار في الجملة. ولا تهمّنا الإطالة في ذلك.