٩. الوضع شخصيّ ونوعيّ
قد عرفت في المبحث الرابع أنّه لا بدّ في الوضع من تصوّر اللفظ والمعنى ، وعرفت هناك أنّ المعنى تارة يتصوّره الواضع بنفسه ، وأخرى بوجهه وعنوانه ، فاعرف هنا أنّ اللفظ أيضا كذلك ، ربما يتصوّره الواضع بنفسه ويضعه للمعنى كما هو الغالب في الألفاظ ، فيسمّى الوضع حينئذ : «شخصيّا» . وربما يتصوّره بوجهه وعنوانه ، فيسمّى الوضع : «نوعيّا».
ومثال الوضع النوعيّ الهيئات ؛ فإنّ الهيئة غير قابلة للتصوّر بنفسها ، بل إنّما يصحّ تصوّرها في مادّة من موادّ اللفظ ، كهيئة كلمة «ضرب» ـ مثلا ـ وهي هيئة الفعل الماضي ، فإنّ تصوّرها لا بدّ أن يكون في ضمن الضاد والراء والباء ، أو في ضمن الفاء والعين واللام في «فعل». ولمّا كانت الموادّ غير محصورة ولا يمكن تصوّر جميعها فلا بدّ من الإشارة إلى أفرادها بعنوان عامّ ، فيضع كلّ هيئة تكون على زنة «فعل» ـ مثلا ـ أو زنة «فاعل» أو غيرهما ، ويتوصّل إلى تصوّر ذلك العامّ بوجود الهيئة في إحدى الموادّ ، كمادّة «فعل» التي جرت الاصطلاحات عليها عند علماء العربيّة.
١٠. وضع المركّبات
ثمّ الهيئة الموضوعة لمعنى ، تارة تكون في المفردات ، كهيئات المشتقّات التي تقدّمت الإشارة إليها ، وأخرى في المركّبات ، كالهيئة التركيبيّة بين المبتدأ والخبر لإفادة حمل شيء ، على شيء ، وكهيئة تقديم ما حقّه التأخير لإفادة الاختصاص.
ومن هنا تعرف أنّه لا حاجة إلى وضع الجمل والمركّبات في إفادة معانيها زائدا على وضع المفردات بالوضع الشخصيّ والهيئات بالوضع النوعيّ ـ كما قيل ـ بل هو لغو محض. ولعلّ من ذهب إلى وضعها أراد به وضع الهيئات التركيبيّة ، لا الجملة بأسرها بموادّها وهيئاتها زيادة على وضع أجزائها ، فيعود النزاع حينئذ لفظيّا .
١١. علامات الحقيقة والمجاز
قد يعلم الإنسان ـ إمّا من طريق نصّ أهل اللغة أو لكونه نفسه من أهل اللغة ـ أنّ لفظ كذا موضوع لمعنى كذا ، ولا كلام لأحد في ذلك ؛ فإنّه من الواضح أنّ استعمال اللفظ في ذلك المعنى حقيقة وفي غيره مجاز.
وقد يشكّ في وضع لفظ مخصوص لمعنى مخصوص ، فلا يعلم أنّ استعماله فيه هل كان على سبيل الحقيقة فلا يحتاج إلى نصب قرينة عليه أو على سبيل المجاز ، فيحتاج إلى نصب القرينة؟ وقد ذكر الأصوليّون لتعيين الحقيقة من المجاز ـ أي لتعيين أنّه موضوع لذلك المعنى أو غير موضوع ـ طرقا وعلامات كثيرة نذكر هنا أهمّها.
العلامة الأولى : التبادر
دلالة كلّ لفظ على أيّ معنى لا بدّ لها من سبب. والسبب لا يخلو فرضه عن أحد أمور ثلاثة : المناسبة الذاتيّة ، وقد عرفت بطلانها ، أو العلقة الوضعيّة ، أو القرينة الحاليّة أو المقاليّة. فإذا علم أنّ الدلالة مستندة إلى نفس اللفظ من غير اعتماد على قرينة فإنّه يثبت أنّها من جهة العلقة الوضعيّة. وهذا هو المراد بقولهم : «التبادر علامة الحقيقة». والمقصود من كلمة «التبادر» هو انسباق المعنى من نفس اللفظ مجرّدا عن كلّ قرينة.
وقد يعترض على ذلك بأنّ التبادر لا بدّ له من سبب ، وليس هو إلاّ العلم بالوضع ؛ لأنّ من الواضح أنّ الانسباق لا يحصل من اللفظ إلى معناه ـ في أيّة لغة ـ لغير العالم بتلك اللغة ، فيتوقّف التبادر على العلم بالوضع ، فلو أردنا إثبات الحقيقة وتحصيل العلم بالوضع بسبب التبادر ، لزم الدور المحال ، فلا يعقل ـ على هذا ـ أن يكون التبادر علامة للحقيقة يستفاد منه العلم بالوضع ، والمفروض أنّه مستفاد من العلم بالوضع.
والجواب : أنّ كلّ فرد من أيّة أمّة يعيش معها لا بدّ أن يستعمل الألفاظ المتداولة عندها تبعا لها ، ولا بدّ أن يرتكز في ذهنه معنى اللفظ ارتكازا يستوجب انسباق ذهنه إلى المعنى عند سماع اللفظ ، وقد يكون ذلك الارتكاز من دون التفات تفصيليّ إليه وإلى خصوصيّات المعنى ، فإذا أراد الإنسان معرفة المعنى وتلك الخصوصيّات وتوجّهت نفسه إليه فإنّه يفتّش عمّا هو مرتكز في نفسه من المعنى ، فينظر إليه مستقلاّ عن القرينة ، فيرى أنّ المتبادر من اللفظ الخاصّ ما هو من معناه الارتكازيّ ، فيعرف أنّه حقيقة فيه.
فالعلم بالوضع لمعنى خاصّ بخصوصيّاته التفصيليّة ـ أي الالتفات التفصيليّ إلى الوضع والتوجّه إليه ـ يتوقّف على التبادر ، والتبادر إنّما هو موقوف على العلم الارتكازيّ بوضع اللفظ لمعناه غير الملتفت إليه.
والحاصل أنّ هناك علمين :
أحدهما يتوقّف على التبادر وهو العلم التفصيليّ ، والآخر يتوقّف التبادر عليه وهو العلم الإجماليّ الارتكازيّ.
هذا الجواب بالقياس إلى العالم بالوضع ، وأمّا بالقياس إلى غير العالم به فلا يعقل حصول التبادر عنده ؛ لفرض جهله باللغة. نعم ، يكون التبادر أمارة على الحقيقة عنده إذا شاهد التبادر عند أهل اللغة ، يعني أنّ الأمارة عنده تبادر غيره من أهل اللغة. مثلا إذا شاهد الأعجميّ من أصحاب اللغة العربيّة انسباق أذهانهم من لفظ «الماء» المجرّد عن القرينة إلى الجسم السائل البارد بالطبع فلا بدّ أن يحصل له العلم بأنّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى عندهم. وعليه فلا دور هنا ؛ لأنّ علمه يتوقّف على التبادر ، والتبادر يتوقّف على علم غيره.