التصور والتصديق
إذا رسمتَ مُثَلَّثاً تحدثُ في ذهنك صورةٌ له، هي عِلمُك بهذا المثلّث، ويُسمّى هذا العلمُ (بالتصور). وهو تصورٌ مجردٌ لا يَستتبعُ جزماً واعتقاداً. وإذا تَنبَّهتَ إلى زوايا المثلث تحدثُ لها أيضاً صورةٌ في ذهنك. وهي أيضاً من (التصور المجرد). وإذا رسمتَ خطاً أفقياً وفوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدثُ زاويتانِ قائمتانِ، فتنتقِشُ صورة الخطين والزاويتين في ذهنك. وهي من (التصور المجرد) أيضاً.
وإذا أَردتَ أن تُقارِنَ بين القائمتين ومجموعِ زوايا المثلث، فتَسألُ في نفسك هل هما متساويانِ؟ وتشكُّ في تساويهما، تحدثُ عندك صورة لنسبة التساوي بينهما وهي من (التصور المجرد) أيضاً.
فإذا بَرهنتِ على تساويهِما تحصلُ لك حالةٌ جديدةٌ مغايرةٌ للحالات السابقة. وهي إدراكُك لمطابقة النسبة للواقع المستلزمِ لحكم النفس وإذعانِها وتصديقِها بالمطابقة. وهذه الحالة أيضاً (صورةُ المطابقة للواقع التي تَعقَّلتَها وأَدركتَها) هي التي تُسمّى (بالتصديق)، لأنّها إدراك يستلزمُ تصديقَ النفس وإذعانَها، تسميةً للشيء باسم لازمِه الذي لا ينفكُّ عنه.
إذن، إدراكُ زوايا المثلّث، وإدراكُ الزاويتينِ القائمتينِ، وإدراكُ نسبةِ التّساوي بينهما كلُّها (تصوراتٌ مجردةٌ) لا يتبعُها حكمٌ وتصديقٌ. أما إدراكُ أنّ هذا التساويَ صحيحٌ واقعٌ مطابقٌ للحقيقة في نفس الأمر فهو (تصديقٌ).
وكذلك إذا أدركتَ أنّ النسبة في الخبر غيرُ مطابقةٍ للواقع، فهذا الإدراكُ (تصديقٌ).
(تنبيه)
إذا لاحظتَ ما مضى يظهرُ لك أنّ التصورَ والإدراكَ والعلمَ كلُّها ألفاظٌ لمعنىً واحدٍ، وهو: حضورُ صورِ الأشياء عند العقل.
فالتصديق أيضاً تصورٌ ولكنّه تصورٌ يستتبعُ الحكمَ وقناعةَ النفس وتصديقها. وإنما لأجل التمييزِ بينَ التصورِ المجردِ أي غيرِ المستتبعِ للحكم، وبينَ التصورِ المستتبعِ له، سُمِّي الأوّلُ (تصوراً) لأنه تصورٌ محضٌ ساذجٌ مجردٌ فيستحقُّ إطلاقَ لفظِ (التصورِ) عليه مجرداً من كلِّ قيدٍ، وسُمّي الثّاني (تصديقاً) لأنّه يستتبعُ الحكمَ والتصديقَ، كما قُلنا تَسميةً للشيء باسمِ لازمِه.
أما إذا قيل: (التصورُ المطلقُ)
فانّما يُرادُ به ما يُساوِقُ العلمَ والإدراكَ فيعُمُّ كِلا التصورينِ: التصورَ المجردَ، والتصورَ المستتبعَ للحكم (التصديق).